الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
كلَّما دقَّ الشيء في حجمه كلما عَظُمَت دقة صنعه:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس عشر من سورة البقرة، ومع الآية السابعة والعشرين وهي قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ هؤلاء الذين سَخِروا من آيات الله، سخروا من هذه البعوضة كيف يضربها الله مثلاً مع أنها مخلوقٌ حقير، يقتلها الإنسان ولا يشعر بشيء، صغيرةٌ، لكن الحقيقة أن الشيء كلما كان صغيراً كانت به صنعةٌ بارعة، كلَّما دقَّ الشيء كلما عَظُمَت دقة صنعه، وذكرت في الدرس الماضي كيف أن هذه البعوضة لها خرطوم، والخرطوم يمكن أن تغرسه في جلد الإنسان، ويمكن أن تغرسه في جدار الأوعية، ويمكن أن تهتدي إلى ضحيتها عن طريق الرادار، ويمكن أن تفحص دم ضحيتها، هناك دمٌ يناسبها ودمٌ لا يناسبها، معنى ذلك أن للبعوضة خرطوماً يخترق جلد الإنسان ويدخل جدار الأوعية، وتهتدي إلى ضحيتها بالرادار، وعندها جهاز فحصٍ للدم، تختار الدم الذي يناسبها، وعندها جهاز تخدير لئلا تُقْتَل أثناء مَصّ الدم، الإنسان حينما تلدغه بعوضة يضربها وهي في الجو، بعد أن تطير، بعد أن يذهب فعل التخدير، وشيءٌ آخر عندها جهاز لتمييع الدم من أجل أن يسري الدم في خرطومها الدقيق جداً، ولها ثلاثة قلوب؛ قلبٌ مركزي وقلبٌ لكل جناح، ويرِفُّ جناحاها أربعة آلاف رفّة في الثانية الواحدة، ولها أرجل على طريقتين إن وقفت على سطحٍ أملس فلها محاجم عن طريق الضغط وتفريغ الهواء، وإن وقفت على سطحٍ صُلب فلها مخالب.
لو علمنا دقة صنع البعوضة لسجدنا لله عزَّ وجل تعظيماً له:
هذه البعوضة التي ضرب النبي عليه الصلاة والسلام مثلاً بِضعف شأنها:
(( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
البعوضة لها جهاز هضم، ولها جهاز دوران، ولها رأس، وفي الرأس بعض الحواس، كل هذه الحواس، وهذه الأجهزة، وهذه الأرجل، وهذا القلب والأوعية، وجهاز المَص، وجهاز الرادار، وجهاز التمييع، وجهاز التخدير، وجهاز التحليل، وهذا الخرطوم الذي ينفذ في جدران الأوعية ويخترق الجلد، هذه البعوضة لو علمنا دقة صنعها لسجدنا لله عزَّ وجل تعظيماً له.
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)﴾
الآية واحدة، ردّ فعل المؤمن تعظيم الله، ردّ فعل الكافر الاستخفاف والاستهزاء، إذاً حينما أراد المؤمن الحقيقة، أراد معرفة الله، كل شيء دلَّه على الله، الأقدام تدل على المسير، والبعر يدل على البعير، والماء يدل على الغدير، أفسماءٌ ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير؟!!
العلاقة الرائعة بين السلوك وبين الاعتقاد:
﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ من هو الذي يستخف بهذه البعوضة التي هي من آيات الله الدالة على عظمته ؟ إنه الفاسق: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ هذه العلاقة الرائعة بين السلوك وبين الاعتقاد، الفاسق لا يعتقد، المؤمن يعتقد، الفاسق يسخر، المؤمن يُعَظِّم، معنى ذلك أن الإنسان حينما يفسُق يصبح منطقه تبريرياً تسويغياً، منطقه مقيداً بشهواته، لذلك إياك أن تناقش منتفعاً إنه لا يقنع معك، يدافع عن المكاسب التي حَصَّلها، هذا الذي ينتفع من الكفر لا يمكن أن يتخلَّى عن الكفر، ينتفع منه، منتفع، المنتفع لا يُناقَش، والغبي لا يُناقَش، والقوي لا يُناقَش، لذلك هم: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ لأنه فسق هو يريد أن يُغَطِّي فسقه، يريد أن يعتقد اعتقاداً يتناسب مع فسقه، وأنسب اعتقاد للفاسق أنه لا يوجد الآخرة، وأن هذه الحياة ليس بعدها حياة:
﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)﴾
الاعتقاد الذي يغطي الانحراف هو الإلحاد، فكلَّما كان هناك انحرافٌ لابدَّ من عقيدة فاسدة تغطِّي هذا الانحراف.
الإنسان العاصي دائماً مختل توازنه فيستعيده بعقيدةٍ تسوِّغ له عمله:
المسلم الذي يتوسَّع ولا يستقيم على أمر الله أنسب عقيدة له أن يؤمن بالشفاعة إيماناً ساذجاً، نحن أمة محمد، نحن أمةٌ مرحومة، يوم القيامة يشفع لنا النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: أمتي أُمتي، ولا يقبل إلا أن يُدْخلنا الجنة جميعاً، هذه العقيدة الساذجة عند الفاسقين، مع أن الشفاعة حق وفيها نصوص صحيحة، لكن لها معنى فوق هذا المعنى، وعند غير المسلمين:
﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)﴾
دائماً الفسقة والمنحرفون والمُقَصِّرون والمتفلتون حتى يستعيدوا توازنهم، حينما يعصي الإنسان الله يختل توازنه، حينما يعصي الله تحاسبه فطرته، ينزعج، يضيق ذرعاً، توازن الإنسان العاصي دائماً مختل، كيف يستعيده؟ يستعيده بعقيدةٍ تُسوِّغ له عمله، لذلك حينما تأتي بعض الكتب ساعة تقرأ قراءة معاصرة للقرآن الكريم، هذا الكتاب الذي يسوِّغ السلوك الإباحي تحت غطاء من الدين، هذا الكتاب يروج جداً، يطبع طبعات كثيرة، مطبوع عشر طبعات، لأنه مريح، إنسان غطيت فسقه بنصوص دينية، غطيت انحرافه، لكن هذا لا ينطلي على الإنسان الواعي.
حينما يختل توازن الإنسان عنده طريقان لاسترجاع التوازن:
إخواننا الكرام؛ فكرة دقيقة جداً، فطرتك سليمة، حينما تعصي الله -لا سمح الله ولا قدَّر-يختل التوازن، حينما يختل هذا التوازن عندك طريقان لاسترجاع التوازن:
الطريق الأول الصحيح هو التوبة، تتوب إلى الله، تصطلح معه، تطبِّق منهجه، تستعيد توازنك وترتاح نفسك، هذا الطريق الطبيعي لاسترداد التوازن.
أما حينما يعصي الإنسان ربه فيتفلَّت، يطلق بصره، يتوسَّع في المعصية، يقبل السلوك اليومي المعاصر، يقبل السلوك الإباحي، هو يحتاج الآن إما إلى توبةٍ نصوح يستعيد بها توازنه، أما إن كان مصراً على هذه الشهوة فيحتاج إلى عقيدة زائغة تغطي انحرافه، هو يتوهَّم أنه هو يفعل الشيء الصحيح، لذلك إنسان مبتلى بشرب الخمر مُصِرّ على أن الله ما حرِّم الخمر، قال: فقط نصحنا أن نجتنبه، لكن قال لي: اذكر لي آية قال الله: حُرِّمت الخمر عليكم، هذا كلام مريح له جداً، مدمن خمر، فإذا اعتقد أن الخمرة حرام اختل توازنه، انكشف، أما حينما يعتقد أن:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)﴾
على الإنسان أن يترك بينه وبين المعصية هامش أمان:
مع أن كلمة اجتناب فيها أشدّ نوع من أنواع التحريم، أي تيار ثمانية آلاف فولت، أردنا أن ننصح الناس بالبعد عنه، هذا التيار له مساحة جذب تقدر بثمانية أمتار، إذا دخل الإنسان هذا الحرم يجذبه هذا التيار ويجعله فحمة سوداء، فلو أن وزير الكهرباء أراد أن يضع إعلاناً تحذيرياً يقول: ممنوع مس التيار، أم يقول: ممنوع الاقتراب منه؟ الاقتراب، لأنه إذا كان ضمن مسافة ثمانية أمتار أصبح فحماً، فهذا الإعلان التحذيري لا يأمر بعدم المس يأمر بعدم الاقتراب، لابدَّ من أن تدع بينك وبين هذا التيار هامش أمان، لابدَّ من أن تدع بينك وبين المعصية، لو أن الخمر قال: حُرِّمت الخمر عليكم، يجوز أن تبيعها وأن تشتريها وأن تتاجر بها وأن تعصرها وأن تُعْلِن عنها، كل هذا يجوز لكن ممنوع أن تشربها، أما حينما قال: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ :
(( عن عبد الله بن عمر: لُعِنتِ الخمرُ على عشرةِ أوجُهٍ: بعينِها، وعاصرِها، ومعتَصرِها، وبائعِها، ومُبتاعِها، وحاملِها، والمحمولةِ إليهِ، وآكِلِ ثمنِها، وشاربِها، وساقيها. ))
هذا كله ملعون إذاً: ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ تعني أشدّ أنواع التحريم، اجتنبوه، أي هذه المعصية لها قوة جذب، فلابدَّ من أن تدع بينك وبينها هامش أمان، كيف أن النهر العميق المخيف الذي يُنذر من يقع فيه بالموت، لهذا النهر شاطئ مائل عليه حشيش مُبْتَل، وله شاطئ جاف مستوٍ، المشي على الشاطئ المائل المبتل الزلِق هذه فيها مخاطرة كبيرة جداً، ممنوع أن تمشي على هذا الشاطئ المائل الزلق لئلا تقع في النهر، ينبغي أن تمشي على الشاطئ الجاف المستوي، هذه قاعدة.
الشهوات التي نضعف أمامها أمرنا الشرع الحكيم أن نبتعد عن أسبابها:
قال الله عزَّ وجل :
﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32)﴾
لم يقل: لا تزنوا، قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ هذه شهوة، لو كان هناك خلوة تثور هذه الشهوة، لو كان هناك إطلاق بصر تثور هذه الشهوة، لو كان هناك متابعة مشاهد على الشاشة هذه فيها مقارفة لهذه الشهوة، فكل ما يُقَرِّبُكَ من هذه الشهوة مُحَرَّم، هذا معنى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ اجعل بينك وبين الزنى هامش أمان، اجعل بينك وبين مال اليتيم هامش أمان، لا تخلط مالك بماله، لا تجعل الحساب هو الحكم، اجعل المال هو الحكم.
هناك موضوع دقيق جداً، هناك شهوات فيها قوة جذب أو فيها وهج، هذه الشهوات التي يضعف الإنسان أمامها في بعض الظروف أمرك الشرع الحكيم أن تبتعد عن أسبابها، الشهوات التي فيها قوة جذب، والتي يَضْعُف الإنسان أمامها في بعض الظروف نهاك من الاقتراب منها: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ .
الآية العظيمة الدَّالة على عظمة الله لا يسخر منها إلا الفاسق:
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)﴾
اجعلوا بينكم وبينها هامش أمان، لا تجلس مع شارب خمر، لا تتعامل مع كل من يتعامل بالخمر، إذاً هذا الأخ الذي أصرّ على أنه ليس في القرآن الكريم آيةٌ تحرم الخمر لماذا؟ حتى يُغَطِّي انحرافه، إذاً القضية الدقيقة الآن حينما ينحرف الإنسان أمامه سبيلان لاستعادة توازنه؛ سبيل الاستقامة والتوبة النصوح والصلح مع الله، وسبيل أن يعتقد عقيدةً زائغةً فاسدةً منحرفةً يتوهَّم بها أنها تغطِّي انحرافه، فلذلك لا يُناقش المتلبِّس بشهوة، لأن منطقه منطق تسويغي تبريري ليس منطقاً حراً أبداً: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ هذه الآية العظيمة الدَّالة على عظمة الله لا يسخر منها إلا الفاسق، ودقق في هذه الآيات:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
الذي يتبع هواه من دون هدىً من الله عزَّ وجل هذا من أشدّ الناس ضلالاً يوم القيامة، هؤلاء الفاسقون ما صفاتهم؟ هو موضوع درسنا اليوم.
﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ آية لها عدة معانٍ:
هؤلاء الفاسقون: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ لهذه الآية معانٍ كثيرة، بعض معانيها أن الله سبحانه وتعالى أخذ من بني آدم في عالم الذر عهداً على أن يطيعوه حينما قال لهم:
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)﴾
هذا عهد، فالذي يأتي إلى الدنيا، ويتعرَّف إلى الله، ويستقيم على أمره هذا أوفى بما عاهد عليه الله، والذي يأتي إلى الدنيا، وتستهويه الشهوات، ويضع منهج الله وراء ظهره هذا نقض عهده مع الله.
المعنى الثاني: أن عهد الله أمره ونهيه الذي جاء في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، نَقْضُ هذا العهد عدم العمل به، الذي لا يعمل بالقرآن والسنة يَنْقُضُ عهد الله، هؤلاء الفاسقون لماذا سموا فاسقين؟ لأنهم: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ .
نقض العهد هو عدم العمل بالكتاب والسنة:
عهد الله إلينا أن نأكل المال الحلال، عهد الله إلينا أن نَقْصُرُ طرفنا على زوجاتنا وعلى محارمنا، عَهْدَ الله إلينا أن نكون صادقين، عهد الله إلينا أن نكون أُمناء، عهد الله إلينا أن نؤدِّي الأمانات إلى أهلها، عهد الله إلينا ألا نظلم بني البشر، ألا نكذب، ألا نأخذ ما ليس لنا، أن نكون أمناء، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما بعثه الله عزَّ وجل لهذه الأمة عَبَّر سيدنا جعفر للنجاشي عن الواقع الذي بين الجاهلية والإسلام حين قال:
(( كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ))
[ إسناده صحيح أخرجه أحمد (1740) باختلاف يسير، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/115) مختصراً ]
إذاً نقض العهد عدم العمل بالكتاب والسنة، كل أمرٍ في القرآن هو عهدٌ عَهِدَ الله به إليك، كل أمرٍ في القرآن، وكل أمرٍ في سنة النبي العدنان هو عهدٌ عَهِد الله به إليك أن تُطَبِّقَهُ، فإن طبَّقته فقد وفَّيت بهذا العهد، وإن لم تطبقه فقد نقضت عهدك مع الله، أي كل إنسان يعصي الله نقض عهده مع الله، أبداً، هذا المعنى الواضح والشائع والواسع والمقبول، نقض العهد مع الله عدم تطبيق أمره والوقوع في نهيه، هذا نقض العهد، فالفاسقون لماذا هم فاسقون؟ لأنهم نقضوا عهدهم مع الله، وأحياناً حينما يتوب الإنسان يعاهد الله على الطاعة، فالذي عاهد الله عند الحجر الأسود أن يطيعه ثم عاد إلى بلده فعاد إلى ما كان عليه نقض عهد الله.
المنافق الفاسق ينقض عهده مع الله:
يقول الله عزَّ وجل :
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)﴾
لذلك يقول الله عزَّ وجل:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾
أنت لاحظ نفسك، إذا تبت إلى الله توبةً نصوحة، وعاهدته على الطاعة، وعاهدته على الإنصاف، وعاهدته على خدمة المسلمين، وعاهدته على الإنفاق في سبيله، لاحظ نفسك: هل تبدل هذا العهد مع مرور الأيام؟ المنافق الفاسق ينقض عهده مع الله، ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ .
الآن يوجد شيء آخر؛ ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ لهذه الآية معانٍ كثيرة، الأنبياء جميعاً دعوتهم واحدة، فالذي لا يفرِّق بين الأنبياء، يجعل كل الأنبياء من عند الله عزَّ وجل معهم كتاب الله، يعتقد بالأنبياء جميعاً اعتقاداً صحيحاً، هذا ما قطع ما أمر الله به أن يوصل، هذا معنى.
كل إنسان يدعو إلى معصية يقطع الناس عن الله عزَّ وجل وقد أُمروا أن يتصلوا بالله، أي بدعة، بدعة فيها اختلاط، عرس مختلط، هذا العرس المختلط بدعةٌ فيه دعوةٌ إلى القطيعة مع الله، حينما يُمَتِّعُ الإنسان بصره بمن لا تَحِلُّ له كانت هذه المتعة المحرَّمة حجاباً بينه وبين الله، ماذا فعل من دعاه إلى هذا الحفل؟ قَطَّعَ علاقات الناس بالله عزَّ وجل.
أنواع المعاصي كلها تقطع عن الله:
من دَلَّ على كسبٍ حرام قطع هذا المكتسب عن الله، أي إنسان دعا إلى معصية، رَوَّج لمعصية، دعا إلى دنيا مُغرية، رَغَّب الناس بشيءٍ لا يرضي الله، دعا الناس إلى شراء جهاز حتى يكون على مستوى العصر، حتى يَطِّلع على ما في العالم من أحداث، كل إنسان يدعو إلى شيء يقطعه عن الله هو قاطع، وأكبر كلمة وأكبر جريمة يرتكبها الإنسان أن يكون قاطعاً عن الله، أنواع المعاصي كلها تقطع عن الله، إذا كانت حرفة إنسان مبنية على معصية، وجد أن أروج حرفة الملهى مثلاً، ماذا يفعل صاحب الملهى؟ يقطع الناس عن الله عزَّ وجل، أي قضية طويلة وواسعة جداً، أي حرفة مبنية على معصية هي في حقيقتها قطع الناس عن رَبِّهم، تزيين الدنيا، إغراء الناس بها، تحبيبهم بالمعصية، أن يكسبوا المال من أي طريق، أن يتخذوا أية حرفة تُدِرُّ عليهم مالاً وفيراً لا يعبؤون بطاعة الله فيها، هذا الذي يتخذ حرفةً فيها شبهة، فيها إيذاءٌ للناس، فيها إيذاءٌ للناس بدينهم، هذا الذي يُروِّج الشهوات، يحببها للناس، يقطعهم عن الله بشكل أو بآخر.
لو أخذ صديق صديقه إلى حفلة مختلطة، وهذا الصديق مثلاً له مسجده، له طاعته لله، له استقامته، أغراه صديقه الحميم بالسهرة المختلطة، فأدخله بعالم آخر، عالم الفتيات، وعالم الاختلاط، وعالم الاستمتاع بمباهج هذه السهرات، فنسي دينه، ونسي صلاته، ونسي حفظه لكتاب الله، سمعت أن أحد الأشخاص يسجل هذه الأفلام الإباحية، ويعرضها على الشباب بأجر في غرفة في بعض أحياء دمشق، أقسم لي أحدهم أن أحد الشباب كان من حُفَّاظ كتاب الله ترك الصلاة، طبعاً، ترويج أي معصية، ترويج أي عمل فني، ترويج أي حرفة، هذه الفتاة التي تخرج متبذِّلةً في ثيابها، تُظهر مفاتنها، والله تقطع الشباب عن الله، تصرفهم عن دين الله، بقي عشرون عاماً بينه وبين الزواج، ينتظر عشرين عاماً إلى أن يتزوج، تُظهر له كل مفاتنها في الطريق، ليس كل شاب عنده مناعة قوية، فكثيرٌ من الشباب يسقط في حمأة المعصية، فهذه الفتاة تَقْطَعُ الشباب عن الله، وأي شيء مغرٍ، أي شيء فيه معصية، أي شيء فيه تحبيب للدنيا هذا يبعد الناس عن الله عزَّ وجل، فهؤلاء الفاسقون مُهِمَّتُهم أن يقطعوا ما أمر الله به أن يوصل.
من يقطع ما أمر الله به أن يوصل إنسان لا علاقة له بالإسلام وله اسم مسلم فقط:
يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
هناك شخص كلما وجد شاباً متعلِّقاً بمسجد، بعالم، يقطعه عنه، يقول له: كن حراً، لا حاجة إلى الشيخ، لا حاجة للجامع، حر متفلت لوحده، بالمسجد تاب إلى الله، عاش بمجتمع مؤمن، صار في منافسة شريفة مع إخوانه، صار عنده انضباط، صار عنده وعي، صار ذا عقيدة صحيحة، لا يروق له أن يكون ابنه في مسجد، يقطعه، قد يأتيه ابنه الساعة الثانية ليلاً، ولا يعلم الأب أين كان؟ لا يتكلَّم ولا كلمة، أما إذا عَلِم أنه في مسجد، في حضور درس علم يقيم عليه النكير، ماذا يفعل هذا الأب؟ يقطع ما أمر الله به أن يوصل، هناك آباء إذا رأى ابنته محجَّبة يقيم عليها النكير، يريدها متبذِّلة حتى يتباهى بها، هناك رجل إن أصرت زوجته على الحجاب يطلِّقها، يريدها متبذِّلة، يريد أن يعرض مفاتنها على أصدقائه كي يتباهى بها، هؤلاء مسلمون، هؤلاء بين أظهرنا، هؤلاء يعيشون معنا، يقطعون ما أمر الله به أن يوصل:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾
في الكون حقيقة واحدة هي الله:
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ هذا الذي يقطعك عن مجلس علم، يقطعك عن مسجد يدعوك إلى الله عزَّ وجل، هذا يقطع ما أمر الله به أن يوصل، هذا الذي يغريك أن تكسب المال الحرام من طريقٍ غير مشروع، من أجل أن تصبح غنياً في وقت قصير، هذا يقطعك عن الله عزَّ وجل.
هناك حقيقة واحدة في الكون هي الله، أي عمل يقرِّبُك من الله هذا عمل عظيم، وأي عمل يبعدك عن الله عزَّ وجل هذا عمل خسيس، أي شراء مجلة غير منضبطة هناك مشكلة، شاب يطَّلع على صور الفنانات بأوضاع مغرية، هذه مجلة، هذه المجلة لا ينبغي أن تكون في هذا البيت، هناك من يشتري هذه المجلات ويضعها في عيادته من أجل أن يستمتع المرضى قبل الدخول عليه، هذا يقطع ما أمر الله به أن يوصل.
أيها الإخوة؛ هؤلاء يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، بالمناسبة وجدت إنساناً له شيخ، له مسجد، ملتزم، متألِّق، دَعْهُ لا تدخل بتفاصيل، لا تقطعه عن هذا المسجد، هذا مصدر سعادته، مصدر انضباطه، إلا بحالات نادرة جداً، إذا كانت هناك عقيدة منحرفة خطيرة جداً في هذا المسجد، هذا موضوع ثانٍ، أما بشكل عام إنسان موصول بالله عن طريق جماعة، عن طريق مسجد، عن طريق شيخ، لا يكن همك قطعه، هذا عمل تخريبي، أنت قطعت ولكن لا يوجد عندك إمكان لتحل محل هذا الشيخ، قطعته عن هذا الشيخ وجعلته ضائعاً ماذا فعلت؟ هذا عمل تخريبي، فكل إنسان له صلة بالله، له عمل صالح، له وجهة لله عزَّ وجل.
لا يأتمر المؤمن الصادق إلا بما أمر الله به ولا ينتهي إلا عما نهى الله عنه:
أحياناً تجد إنساناً معتقداً بإنسان، أخوين في المسجد، الأخ السابق تائب من عشر سنوات، له ماضٍ قبل عشر سنوات كان غير مرضٍ، ولكنه تاب توبة نصوحاً من هذا العمل، يصطحب معه أخاً فيسأله: أنت مَن دلك على هذا المسجد؟ فيقول له: فلان، يقول له: فلان؟ هذا كان كذا، كان كذا، ماذا فعلت أنت؟ لقد تاب من هذا الذنب وسلك طريقه إلى الله، وصار متألِّقاً، ودعا إلى الله، لماذا تُذَكِّر هذا الشاب الناشئ الذي اهتدى على يد هذا الشاب الأكبر منه بعمل فعله قبل عشر سنوات؟ هذا عمل شيطاني، كل إنسان له صلة بالله، أي قطع لهذه الصلة عمل تخريبي، وعمل يُغضب الله عزَّ وجل، هؤلاء الفسقة همُّهم الأول أن يقطعوا ما أمر الله به أن يُوصل، يقطع التلميذ عن أستاذه، يقطع الأخ عن أخيه، يقطع الجار عن جاره، يقطع الأم عن ابنتها، هناك أزواج يُحرِّم أن تزور البنت أهلها، لماذا؟ أمها وأبوها من حقها، الله عزَّ وجل أمر بصلة الرحم، هو يقطع هذه الصلة.
قد يأمر أحدهم إنساناً أن يقاطع أهله، هذا الأمر مخالف للسنة، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، أي لتحقيق نزوة معيَّنة، لتحقيق هدف كيدي يأمر هذا الإنسان أن يُقاطع أهله جميعاً، أن يُقاطع أخواته، هذا عمل كَيْدي، هذا مخالف للسنة، لا يأتمر المؤمن الصادق إلا بما أمر الله به، ولا ينتهي إلا عما نهى الله عنه، ولا يطيع مخلوقاً في معصية أبداً، وكل إنسان يعتقد أن هناك إنساناً أكمل من رسول الله فهو كافر برسالة رسول الله عليه الصلاة والسلام، أي إذا أنت سمعت كلام إنسان وعصيت النبي عليه الصلاة والسلام فأنت لست مؤمناً برسالة النبي، ولا بعصمة النبي، ولا بأحقية اتباع النبي، هذه آية دقيقة المعنى، ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ إيَّاك أن تكون أداة قطعٍ، كن أداة وصلٍ، ليس منا من فَرَّق.
حتى الذي يريد موظفاً بلا زوجة، في دول الخليج أحياناً يطلبون موظفاً من دون زوجة، زوجته أقرب الناس إليه، ليس في الإمكان أن يعيش بعيداً عنها، وليس في إمكانها أن تعيش بعيدةً عنه، لا نقبلك إلا بلا زوجة، يبقى سنةً بأكملها في مكان وزوجته في بلد آخر، هؤلاء يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، هؤلاء الذين يفرِّقون شمل الأسرة هؤلاء ليسوا على حق، يأمرك القرآن والسنَّة أن تجمع شمل الأسرة، هذه الآية واسعة جداً لا تنتهي، في العلاقات الأسرية، في العلاقات الزوجية، في علاقة الآباء بأبنائهم، هذا الذي يثير الابن على أبيه هذا يقطع ما أمر الله به أن يوصل، هذا الذي يثير الجار على جاره، الأخ على أخيه، هذا الذي يدعو إلى معصية، يرَغِّب في معصية، هذا الذي يغريك بمالٍ حرام يقطعك عن الله عزَّ وجل، ليس منا من فرَّق، طبعاً آية واسعة جداً.
البيت مصون مقدَّس في الإسلام:
﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ يفسدون العلاقات، يفسدون الأخلاق، يفسدون براءة الصغار، هناك أعمال فنية مستوردة تُعْرَض على الصغار فيها كل شيء من الفسق والفجور والعلاقات الغرامية، طفل عمره ثلاث سنوات أو أربع سنوات يشرب مع دمه هذه العلاقات الشائنة عن طريق أفلام نستوردها، طبعاً هذه لا تجوز، لابدَّ من أعمال تناسب الصغار المؤمنين، كل عمل يُبعدك عن الله عزَّ وجل هذا قطعٌ لما أمر الله به أن يوصل.
هناك جهات بعيدة تكيد للمسلمين، نحن قد غُزِينا ثقافياً عن طريق هذه الصحون، صار البيت ملهى، صار البيت نادياً ليلياً، البيت مقدَّس، الأب مقدَّس، الأم مقَدَّسة، حالاتٌ كثيرةٌ من زنا المحارم تقع عن طريق هذه الصحون.
﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ آية واسعة جداً، أي كل شيء أمر الله به أن يوصل قطعه عملٌ تخريبي، وعمل يُغضب الله عزَّ وجل، ولا يرضي الله، ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ هذا الفساد كما قال الله عزَّ وجل:
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(41)﴾
أي الله عزَّ وجل يذيق الناس بعض الذي عملوا: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ .
علينا أن نطيع الله وإلا لابدَّ من تأديبٍ قد لا نحتمله:
إخواننا الكرام؛ علينا أن نطيع الله وإلا لابدَّ من تأديبٍ قد لا نحتمله:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
يأتي التأديب أحياناً فوق طاقة الاحتمال، إنسان يرى نفسه في الطريق، أنت عندك بيت، لك مأوى، لك فراش، لك سرير، لك غرفة طعام، خزانة ملابس، أما إن وجدت نفسك في العراء، هذا يراه الناس كل يوم، في مكان فيضانات، في مكان رياح عاتية، في مكان حروب أهلية: ﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ .
ملخص الملخص أننا إذا هان أمر الله علينا هُنَّا على الله ولا يعبأ الله بنا:
مُلَخَّص المُلَخَّص: إذا هان أمر الله علينا هُنَّا على الله، لا يعبأ الله بنا، ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ الفساد كذلك واسع جداً، إذا سأل أحدهم أخته: ماذا قدَّم لكِ زوجكِ على الولادة؟ قالت له: لم يقدِّم لي شيئاً، فأجابها متسائلاً: معقول هذا؟ أليس لكِ قيمة عنده؟ يليق بكِ شخص غيره أرقى منه، ألقى قنبلة ومشى، جاء زوجها ظهراً إلى البيت فوجدها غاضبة فتشاجرا، وتلاسنا، فطلقها، من أين بدأت المشكلة؟ من كلمة قالها الأخ، هذا البيت كيف يتسع لكم؟ إنه يتسع لنا، لابأس، القاضي راض أنت لا علاقة لك، يُعَكِّر صفو الأسرة، شيطان، داخل فيه شيطان، هذا الفساد، التقى بشاب راقٍ: أين تعمل؟ فقال له: بالمحل الفلاني، كم يعطيك بالشهر؟ قال له: خمسة آلاف، فيرد عليه مستنكراً: خمسة آلاف فقط، كيف تعيش بهذا المبلغ؟ إن صاحب العمل لا يستحق جهدك ولا يستأهله، جعله كارهاً عمله، فطلب رفع الراتب، رفض صاحب العمل، فأصبح بلا عمل، كان يعمل أما الآن فهو بلا عمل في الطريق، هناك شيطان.
(( عن أبي هريرة: إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ. ))
كل إنسان يصَغِّر دنيا الناس عندهم، يُكَرِّهه ببيته، يكرهه بزوجته، يكرهه بأولاده، يكرهه بمهنته، بحرفته، يستعلي عليه، هذا يُفسد في الأرض، أفسد العلاقات، أفسد القرابات، أفسد الأعمال، فالفساد أيضاً واسع.
الفساد واسع جداً وهو إخراج الشيء عن طبيعته:
دققوا أيها الإخوة؛ كلمة تنطق بها من سخط الله تهوي بها في جهنم سبعين خريفاً، كلمة استعلاء أحياناً تجرح الإنسان:
جراح السنان له التئام وليس لجراح اللسان التئام
يتكلم الإنسان أحياناً كلمة قاسية تُحفر في أعماقه لماذا؟
فيا أيها الإخوة الكرام؛ قطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض هذا من خصائص هذا العصر، دائماً بالتباهي، النساء دائماً يُحببن أن يستكثرن أمام صديقاتهن، هذا أيضاً فساد في الأرض، أكرمك الله بزوج حالته المادية جيدة، هل من المفروض أن تحدِّثي جيرانك عن طعامكم، وعن نزهاتكم، وعن فرشكم، وعن بيتكم؟ داخل فيها شيطان، عملية تحطيم، أنا كذا، زوجي كذا، دخله كذا، قمنا بنزهة بالمكان الفلاني، بالفندق الفلاني، حفل عُرسنا كان بالمكان الفلان، هذا الحديث الفارغ الذي يملأ القلب حسرةً، ويملأ الناس ضغينةً وحقداً، المؤمن يذكر الله عزَّ وجل، إذا أكرمك الله عزَّ وجل فاشكره دون أن تكسر قلب الآخرين، هذا الفساد، هناك فساد بالكلمة، وهناك فساد بالأجواء، فساد بالمياه، فساد بالبيئة، فساد بالثمرات، فساد بالنباتات، الفساد واسع جداً، أي إخراج الشيء عن طبيعته فساد، والمؤمن لا يُفْسد إطلاقاً، لا يغير خلق الله عزَّ وجل: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ .
بعض خصائص الذين لا يعبؤون بآيات الله ولا يراقبون الله في تصرفاتهم:
فيا أيها الإخوة؛ هؤلاء الذين لا يعبؤون بآيات الله، من خصائصهم أنَّهم: ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ المعنى الواسع: لا يطيعون الله، لا يأتمرون بأمر الله لا في كتابه ولا في سنَّه نبيِّه، ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ يقطعون الناس عن ربِّهم، ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ يغيِّرون طبيعة كل شيء، قال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ .
الملف مدقق